فصل: فَصْلٌ: (رُسُومٌ وَحُدُودٌ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


‏[‏مَدَارِجُ السَّالِكِينَ بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏]‏

الجزء الثالث

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةِ الْهِمَّةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏"‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏"‏ مَنْزِلَةُ الْهِمَّةِ‏.‏

وَقَدْ صَدَّرَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى‏}‏‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ‏:‏ أَنَّهُ صَدَّرَ بِهَا بَابَ الْأَدَبِ، وَذَكَرْنَا وَجْهَهُ‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ تَصْدِيرِ ‏"‏ الْهِمَّةِ ‏"‏ بِهَا‏:‏ فَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هِمَّتَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا تَعَلَّقَتْ بِسِوَى مَشْهُودِهِ، وَمَا أُقِيمَ فِيهِ‏.‏ وَلَوْ تَجَاوَزَتْهُ هِمَّتُهُ لِتَبِعَهَا بَصَرُهُ‏.‏

وَالْهِمَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْهَمِّ‏.‏ وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ‏.‏ وَلَكِنْ خَصُّوهَا بِنِهَايَةِ الْإِرَادَةِ‏.‏ فَالْهَمُّ مَبْدَؤُهَا‏.‏ وَالْهِمَّةُ نِهَايَتُهَا‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ‏:‏ فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ‏.‏ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْعَامَّةُ تَقُولُ‏:‏ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ‏.‏ وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ‏:‏ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَطْلُبُ‏.‏ يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْءِ هِمَّتُهُ وَمَطْلَبُهُ‏.‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏

الْهِمَّةُ‏:‏ مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ صِرْفًا‏.‏ لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا‏.‏ وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ لِلْمَقْصُودِ ‏"‏ أَيْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ كَاسْتِيلَاءِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَمْلُوكِ، وَصِرْفًا أَيْ خَالِصًا صِرْفًا‏.‏

وَالْمُرَادُ‏:‏ أَنَّ هِمَّةَ الْعَبْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْحَقِّ تَعَالَى طَلَبًا صَادِقًا خَالِصًا مَحْضًا‏.‏ فَتِلْكَ هِيَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ، الَّتِي لَا يَتَمَالَكُ صَاحِبُهَا أَيْ‏:‏ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُهْلَةِ‏.‏ وَلَا يَتَمَالَكُ صَبْرَهُ؛ لِغَلَبَةِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ‏.‏ وَشِدَّةِ إِلْزَامِهَا إِيَّاهُ بِطَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يَلْتَفِتُ عَنْهَا إِلَى مَا سِوَى أَحْكَامِهَا‏.‏ وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ‏:‏ سَرِيعٌ وُصُولُهُ وَظَفَرُهُ بِمَطْلُوبِهِ‏.‏ مَا لَمْ تَعُقْهُ الْعَوَائِقُ، وَتَقْطَعْهُ الْعَلَائِقُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْهِمَّةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏:‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ هِمَّةٌ تَصُونُ الْقَلْبَ عَنْ وَحْشَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْفَانِي، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي، وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي‏.‏

الْفَانِي الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا‏.‏ أَيْ يَزْهَدُ الْقَلْبُ فِيهَا وَفِي أَهْلِهَا‏.‏ وَسَمَّى الرَّغْبَةَ فِيهَا وَحْشَةً لِأَنَّهَا وَأَهْلَهَا تُوحِشُ قُلُوبَ الرَّاغِبِينَ فِيهَا، وَقُلُوبَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا‏.‏

أَمَّا الرَّاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا فِيهَا‏:‏ فَأَرْوَاحُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ أَجْسَامِهِمْ‏.‏ إِذْ فَاتَهَا مَا خُلِقَتْ لَهُ‏.‏ فَهِيَ فِي وَحْشَةٍ لِفَوَاتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فِيهَا‏:‏ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهَا مُوحِشَةً لَهُمْ‏.‏ لِأَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ‏.‏ وَلَا شَيْءَ أَوْحَشُ عِنْدَ الْقَلْبِ مِمَّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْ نَازَعَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَطَلَبَهَا مِنْهُمْ أَوْحَشَ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَأَبْغَضَهُ‏.‏

وَأَيْضًا‏:‏ فَالزَّاهِدُونَ فِيهَا‏:‏ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْبَصَائِرِ‏.‏ وَالرَّاغِبُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِالْأَبْصَارِ فَيَسْتَوْحِشُ الزَّاهِدُ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ الرَّاغِبُ‏.‏ كَمَا قِيلَ‏:‏

وَإِذَا أَفَاقَ الْقَلْبُ وَانْدَمَلَ الْهَوَى *** رَأَتِ الْقُلُوبُ وَلَمْ تَرَ الْأَبْصَارُ

وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِمَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْبَاقِي لِذَاتِهِ‏.‏ وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَالْبَاقِي بِإِبْقَائِهِ‏:‏ هُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ‏.‏

وَتُصَفِّيهِ مِنْ كَدَرِ التَّوَانِي أَيْ تُخَلِّصُهُ وَتُمَحِّصُهُ مِنْ أَوْسَاخِ الْفُتُورِ وَالتَّوَانِي، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْإِضَاعَةِ وَالتَّفْرِيطِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ هِمَّةٌ تُورِثُ أَنَفَةً مِنَ الْمُبَالَاةِ بِالْعِلَلِ، وَالنُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ وَالثِّقَةِ بِالْأَمَلِ‏.‏

الْعِلَلُ هَاهُنَا‏:‏ هِيَ عِلَلُ الْأَعْمَالِ مِنْ رُؤْيَتِهَا، أَوْ رُؤْيَةِ ثَمَرَاتِهَا وَإِرَادَتِهَا‏.‏ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ عِلَلٌ‏.‏

فَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ‏:‏ يَأْنَفُ عَلَى هِمَّتِهِ، وَقَلْبِهِ مِنْ أَنْ يُبَالِيَ بِالْعِلَلِ‏.‏ فَإِنَّ هِمَّتَهُ فَوْقَ ذَلِكَ‏.‏ فَمُبَالَاتُهُ بِهَا، وَفِكْرَتُهُ فِيهَا‏:‏ نُزُولٌ مِنَ الْهِمَّةِ‏.‏

وَعَدَمُ هَذِهِ الْمُبَالَاةِ‏:‏ إِمَّا لِأَنَّ الْعِلَلَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ هِمَّتِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا‏.‏ فَلَا يُبَالِي بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ‏.‏ وَإِمَّا لِأَنَّ هِمَّتَهُ وَسِعَتْ مَطْلُوبَهُ، وَعُلُوُّهُ يَأْتِي عَلَى تِلْكَ الْعِلَلِ، وَيَسْتَأْصِلُهَا‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا عَلَّقَ هِمَّتَهُ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا تَضَمَّنَتْهَا الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ‏.‏ فَانْدَرَجَ حُكْمُهَا فِي حُكْمِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ‏.‏ وَهَذَا مَوْضِعٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ جِدًّا‏.‏ وَمَا أَدْرِي قَصَدَهُ الشَّيْخُ أَوْ لَا‏؟‏

وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ النُّزُولِ عَلَى الْعَمَلِ‏:‏ فَكَلَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ وَتَبْيِينٍ‏.‏ وَهُوَ أَنَّ الْعَالِيَ الْهِمَّةِ مَطْلَبُهُ فَوْقَ مَطْلَبِ الْعُمَّالِ وَالْعُبَّادِ‏.‏ وَأَعْلَى مِنْهُ‏.‏ فَهُوَ يَأْنَفُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ سَمَاءِ مَطْلَبِهِ الْعَالِي، إِلَى مُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، دُونَ السَّفَرِ بِالْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ لَهُ وَيَفُوزَ بِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى طَلَبًا تَامًّا بِكُلِّ مَعْنًى وَاعْتِبَارٍ فِي عَمَلِهِ، وَعِبَادَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَعُزْلَتِهِ وَخُلْطَتِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ‏.‏ فَقَدِ انْصَبَغَ قَلْبُهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيُّمَا صِبْغَةٍ‏.‏

وَهَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ‏.‏ فَهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِمُجَرَّدِ رُسُومِ الْأَعْمَالِ، وَلَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّلَبِ حَالَ الْعَمَلِ فَقَطْ‏.‏

وَأَمَّا أَنَفَتُهُ مِنَ الثِّقَةِ بِالْأَمَلِ‏:‏ فَإِنَّ الثِّقَةَ تُوجِبُ الْفُتُورَ وَالتَّوَانِيَ‏.‏ وَصَاحِبُ هَذِهِ الْهِمَّةِ‏:‏ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، كَيْفَ‏؟‏ وَهُوَ طَائِرٌ لَا سَائِرٌ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ هِمَّةٌ تَتَصَاعَدُ عَنِ الْأَحْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ هِمَّةٌ تَتَصَاعَدُ عَنِ الْأَحْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ‏.‏ وَتُزْرِي بِالْأَعْوَاضِ وَالدَّرَجَاتِ‏.‏ وَتَنْحُو عَنِ النُّعُوتِ نَحْوَ الذَّاتِ‏.‏

أَيْ هَذِهِ الْهِمَّةُ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ صَاحِبُهَا بِالْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَالْوَارِدَاتِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ‏.‏ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعْطِيلَهَا‏.‏ بَلِ الْقِيَامَ بِهَا مَعَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَالتَّعَلُّقِ بِهَا‏.‏

وَوَجْهُ صُعُودِ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ عَنْ هَذَا‏:‏ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ تُزْرِي بِالْأَعْوَاضِ وَالدَّرَجَاتِ، وَتَنْحُو عَنِ النُّعُوتِ نَحْوَ الذَّاتِ، أَيْ صَاحِبُهَا لَا يَقِفُ عِنْدَ عِوَضٍ وَلَا دَرَجَةٍ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ نُزُولٌ مِنْ هِمَّتِهِ‏.‏ وَمَطْلَبُهُ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْهِمَّةِ قَدْ قَصَرَ هِمَّتَهُ عَلَى الْمَطْلَبِ الْأَعْلَى، الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ‏.‏ وَالْأَعْوَاضُ وَالدَّرَجَاتُ دُونَهُ‏.‏ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَهُنَاكَ كُلُّ عِوَضٍ وَدَرَجَةٍ عَالِيَةٍ‏.‏

وَأَمَّا نَحْوُهَا نَحْوَ الذَّاتِ فَيُرِيدُ بِهِ‏:‏ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى شُهُودِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ‏.‏ بَلِ الذَّاتُ الْجَامِعَةُ لِمُتَفَرِّقَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ‏.‏ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏"‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏"‏ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ‏.‏

وَهِيَ الْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ‏.‏ وَإِلَيْهَا شَخَصَ الْعَامِلُونَ‏.‏ وَإِلَى عِلْمِهَا شَمَّرَ السَّابِقُونَ‏.‏ وَعَلَيْهَا تَفَانَى الْمُحِبُّونَ‏.‏ وَبِرُوحِ نَسِيمِهَا تَرَوَّحَ الْعَابِدُونَ‏.‏ فَهِيَ قُوتُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَقُرَّةُ الْعُيُونِ‏.‏ وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ‏.‏ وَالنُّورُ الَّذِي مَنْ فَقَدَهُ فَهُوَ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ‏.‏ وَالشِّفَاءُ الَّذِي مَنْ عَدِمَهُ حَلَّتْ بِقَلْبِهِ جَمِيعُ الْأَسْقَامِ‏.‏ وَاللَّذَّةُ الَّتِي مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهَا فَعَيْشُهُ كُلُّهُ هُمُومٌ وَآلَامٌ‏.‏

وَهِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مَتَى خَلَتْ مِنْهَا فَهِيَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ‏.‏ تَحْمِلُ أَثْقَالَ السَّائِرِينَ إِلَى بِلَادٍ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بَالِغِيهَا‏.‏ وَتُوصِلُهُمْ إِلَى مَنَازِلَ لَمْ يَكُونُوا بِدُونِهَا أَبَدًا وَاصِلِيهَا‏.‏ وَتُبَوِّؤُهُمْ مِنْ مَقَاعِدِ الصِّدْقِ مَقَامَاتٍ لَمْ يَكُونُوا لَوْلَاهَا دَاخِلِيهَا‏.‏ وَهِيَ مَطَايَا الْقَوْمِ الَّتِي مَسْرَاهُمْ عَلَى ظُهُورِهَا دَائِمًا إِلَى الْحَبِيبِ‏.‏ وَطَرِيقُهُمُ الْأَقْوَمُ الَّذِي يُبَلِّغُهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمُ الْأُولَى مِنْ قَرِيبٍ‏.‏

تَاللَّهِ لَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُهَا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ إِذْ لَهُمْ مِنْ مَعِيَّةِ مَحْبُوبِهِمْ أَوْفَرُ نَصِيبٍ‏.‏ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ- يَوْمَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ-‏:‏ أَنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ‏.‏ فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى الْمُحِبِّينَ سَابِغَةٍ‏.‏

تَاللَّهِ لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْمُ السُّعَاةَ، وَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الْفُرُشِ نَائِمُونَ‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمُوا الرَّكْبَ بِمَرَاحِلَ، وَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ وَاقِفُونَ‏.‏

مِنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ *** تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ

أَجَابُوا مُنَادِيَ الشَّوْقِ إِذْ نَادَى بِهِمْ‏:‏ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ‏.‏ وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى مَحْبُوبِهِمْ، وَكَانَ بَذْلُهُمْ بِالرِّضَا وَالسَّمَاحِ‏.‏ وَوَاصَلُوا إِلَيْهِ الْمَسِيرَ بِالْإِدْلَاجِ وَالْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ‏.‏ تَاللَّهِ لَقَدْ حَمِدُوا عِنْدَ الْوُصُولِ سُرَاهُمْ‏.‏ وَشَكَرُوا مَوْلَاهُمْ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ‏.‏ وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْقَوْمَ السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ‏.‏

فَحَيَّهَلًا إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّةٍ فَقَدْ *** حَدَا بِكَ حَادِي الشَّوْقِ فَاطْوِ الْمَرَاحِلَا

وَقُلْ لِمُنَادِي حُبِّهِمْ وَرِضَاهُمْ *** إِذَا مَا دَعَا لَبَّيْكَ أَلْفًا كَوَامِلَا

وَلَا تَنْظُرِ الْأَطْلَالَ مِنْ دُونِهِمْ فَإِنْ *** نَظَرْتَ إِلَى الْأَطْلَالِ عُدْنَ حَوَائِلَا

وَلَا تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رُفْقَةَ قَاعِدٍ *** وَدَعْهُ فَإِنَّ الشَّوْقَ يَكْفِيكَ حَامِلَا

وَخُذْ مِنْهُمْ زَادًا إِلَيْهِمْ وَسِرْ عَلَى *** طَرِيقِ الْهُدَى وَالْفَقْرِ تُصْبِحُ وَاصِلَا

وَأَحْيِ بِذِكْرَاهُمْ سُرَاكَ إِذَا وَنَتْ *** رِكَابُكَ فَالذِّكْرَى تُعِيدُكَ عَامِلَا

وَإِمَّا تَخَافَنَّ الْكَلَالَ فَقُلْ لَهَا *** أَمَامُكِ وِرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِ الْمَنَاهِلَا

وَخُذْ قَبَسًا مِنْ نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ *** فَنُورُهُمْ يَهْدِيكَ لَيْسَ الْمَشَاعِلَا

وَحَيِّ عَلَى وَادِ الْأَرَاكَ فَقِلْ بِهِ *** عَسَاكَ تَرَاهُمْ فِيهِ إِنْ كُنْتَ قَائِلَا

وَإِلَّا فَفِي نُعْمَانَ عِنْدَ مُعَرِّفِ الْـ *** أَحِبَّةِ فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلَا

وَإِلَّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ *** تَفُتْ، فَمَتَى‏؟‏ يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلَا

وَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ بِقُرْبِهِمْ *** مَنَازِلُكَ الْأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلًا

وَلَكِنْ سَبَاكَ الْكَاشِحُونَ لِأَجْلِ ذَا *** وَقَفْتَ عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي الْمَنَازِلَا

فَدَعْهَا رُسُومًا دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا *** مَقِيلٌ فَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلَا

رُسُومٌ عَفَتْ يَفْنَى بِهَا الْخَلْقُ كَمْ بِهَا *** قَتِيلٌ‏؟‏ وَكَمْ فِيهَا لِذَا الْخُلُقِ قَاتِلَا

وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي *** عَلَيْهِ سَرَى وَفْدُ الْمَحَبَّةِ آهِلَا

وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً *** فَعِنْدَ اللُّقَّا ذَا الْكَدِّ يُصْبِحُ زَائِلَا

فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي *** وَيُصْبِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا

أَوَّلُ نَقْدَةٍ مِنْ أَثْمَانِ الْمَحَبَّةِ‏:‏ بَذْلُ الرُّوحِ فَمَا لِلْمُفْلِسِ الْجَبَانِ الْبَخِيلِ وَسَوْمِهَا‏؟‏

بِدَمِ الْمُحِبِّ يُبَاعُ وَصْلُهُمْ *** فَمَنِ الَّذِي يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ

تَاللَّهِ مَا هُزِلَتْ فَيَسْتَامَهَا الْمُفْلِسُونَ، وَلَا كَسَدَتْ فَيَبِيعَهَا بِالنَّسِيئَةِ الْمُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ فِي سُوقِ مَنْ يَزِيدُ، فَلَمْ يُرْضَ لَهَا بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ‏.‏ فَتَأَخَّرَ الْبَطَّالُونَ‏.‏ وَقَامَ الْمُحِبُّونَ يَنْظُرُونَ‏:‏ أَيُّهُمُّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا‏؟‏ فَدَارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهُمْ‏.‏ وَوَقَعَتْ فِي يَدِ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

لَمَّا كَثُرَ الْمُدَّعُونَ لِلْمَحَبَّةِ طُولِبُوا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى‏.‏ فَلَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى الْخَلِيُّ حُرْقَةَ الشَّجِيِّ‏.‏ فَتَنَوَّعَ الْمُدَّعُونَ فِي الشُّهُودِ‏.‏ فَقِيلَ‏:‏ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

فَتَأَخَّرَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ‏.‏ وَثَبَتَ أَتْبَاعُ الْحَبِيبِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ‏.‏ فَطُولِبُوا بِعَدَالَةِ الْبَيِّنَةِ بِتَزْكِيَةِ ‏{‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏}‏‏.‏

فَتَأَخَّرَ أَكْثَرُ الْمُحِبِّينَ وَقَامَ الْمُجَاهِدُونَ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّ نُفُوسَ الْمُحِبِّينَ وَأَمْوَالَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ‏.‏ فَهَلُمُّوا إِلَى بَيْعَةِ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ‏}‏‏.‏

فَلَمَّا عَرَفُوا عَظَمَةَ الْمُشْتَرِي، وَفَضْلَ الثَّمَنِ، وَجَلَالَةَ مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ عَقْدُ التَّبَايُعِ‏:‏ عَرَفُوا قَدْرَ السِّلْعَةِ، وَأَنَّ لَهَا شَأْنًا‏.‏ فَرَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ أَنْ يَبِيعُوهَا لِغَيْرِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏.‏ فَعَقَدُوا مَعَهُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بِالتَّرَاضِي، مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ خِيَارٍ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ وَاللَّهِ لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ‏.‏

فَلَمَّا تَمَّ الْعَقْدُ وَسَلَّمُوا الْمَبِيعَ، قِيلَ لَهُمْ‏:‏ مُذْ صَارَتْ نُفُوسُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَنَا رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، وَأَضْعَافَهَا مَعًا ‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

إِذَا غُرِسَتْ شَجَرَةُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَسُقِيَتْ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ، وَمُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ، أَثْمَرَتْ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ‏.‏ وَآتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا‏.‏ أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ‏.‏ وَفَرْعُهَا مُتَّصِلٌ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى‏.‏

لَا يَزَالُ سَعْيُ الْمُحِبِّ صَاعِدًا إِلَى حَبِيبِهِ لَا يَحْجُبُهُ دُونَهُ شَيْءٌ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏حَدُّ الْمَحَبَّةِ‏]‏

لَا تُحَدُّ الْمَحَبَّةُ بِحَدٍّ أَوْضَحَ مِنْهَا‏.‏ فَالْحُدُودُ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا خَفَاءً وَجَفَاءً‏.‏ فَحَدُّهَا وُجُودُهَا‏.‏ وَلَا تُوصَفُ الْمَحَبَّةُ بِوَصْفٍ أَظْهَرَ مِنَ الْمَحَبَّةِ‏.‏

وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي أَسْبَابِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَعَلَامَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا، وَثَمَرَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا‏.‏ فَحُدُودُهُمْ وَرُسُومُهُمْ دَارَتْ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ‏.‏ وَتَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْعِبَارَاتُ‏.‏ وَكَثُرَتِ الْإِشَارَاتُ، بِحَسَبِ إِدْرَاكِ الشَّخْصِ وَمَقَامِهِ وَحَالِهِ، وَمِلْكِهِ لِلْعِبَارَةِ‏.‏

وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُورُ فِي اللُّغَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الصَّفَاءُ وَالْبَيَاضُ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِصَفَاءِ بَيَاضِ الْأَسْنَانِ وَنَضَارَتِهَا‏:‏ حَبَبُ الْأَسْنَانِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْعُلُوُّ وَالظُّهُورُ‏.‏ وَمِنْهُ حَبَبُ الْمَاءِ وَحُبَابُهُ‏.‏ وَهُوَ مَا يَعْلُوهُ عِنْدَ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ‏.‏ وَحَبَبُ الْكَأْسِ مِنْهُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ حَبَّ الْبَعِيرُ وَأَحَبَّ، إِذَا بَرَكَ وَلَمْ يَقُمْ‏.‏ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

حُلْتَ عَلَيْهِ بِالْفَلَاةِ ضَرْبًا *** ضَرْبَ بِعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا

الرَّابِعُ‏:‏ اللُّبُّ‏.‏ وَمِنْهُ‏:‏ حَبَّةُ الْقَلْبِ، لِلُبِّهِ وَدَاخِلِهِ‏.‏ وَمِنْهُ الْحَبَّةُ لِوَاحِدَةِ الْحُبُوبِ‏.‏ إِذْ هِيَ أَصْلُ الشَّيْءِ وَمَادَّتُهُ وَقِوَامُهُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ الْحِفْظُ وَالْإِمْسَاكُ‏.‏ وَمِنْهُ حِبُّ الْمَاءِ لِلْوِعَاءِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ وَيُمْسِكُهُ وَفِيهِ مَعْنَى الثُّبُوتِ أَيْضًا‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَإِنَّهَا صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ، وَهَيَجَانُ إِرَادَاتِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ‏.‏ وَعُلُوُّهَا وَظُهُورُهَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ‏.‏ وَثُبُوتِ إِرَادَةِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ‏.‏ وَلُزُومِهَا لُزُومًا لَا تُفَارِقُهُ، وَلِإِعْطَاءِ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ لُبَّهُ، وَأَشْرَفَ مَا عِنْدَهُ‏.‏ وَهُوَ قَلْبُهُ، وَلِاجْتِمَاعِ عَزَمَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَهُمُومِهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ‏.‏

فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا الْمَعَانِي الْخَمْسَةُ‏.‏ وَوَضَعُوا لِمَعْنَاهَا حَرْفَيْنِ مُنَاسِبَيْنِ لِلْمُسَمَّى غَايَةَ الْمُنَاسَبَةِ ‏"‏ الْحَاءَ ‏"‏ الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَ ‏"‏ الْبَاءَ ‏"‏ الشَّفَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ نِهَايَتُهُ‏.‏ فَلِلْحَاءِ الِابْتِدَاءُ، وَلِلْبَاءِ الِانْتِهَاءُ‏.‏ وَهَذَا شَأْنُ الْمَحَبَّةِ وَتَعَلُّقُهَا بِالْمَحْبُوبِ‏.‏ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْهُ وَانْتِهَاءَهَا إِلَيْهِ‏.‏ وَقَالُوا فِي فِعْلِهَا‏:‏ حَبَّهُ وَأَحَبَّهُ‏.‏ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أُحِبُّ أَبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ *** وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ

فَوَاللَّهِ لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ *** وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمِشْرِقِ

ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحَبَّ فَقَالُوا‏:‏ مُحِبٌّ، وَلَمْ يَقُولُوا‏:‏ حَابٌّ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَبَّ، فَقَالُوا‏:‏ مَحْبُوبٌ، وَلَمْ يَقُولُوا‏:‏ مُحَبٌّ إِلَّا قَلِيلًا‏.‏ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ *** مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ

وَأَعْطَوُا الْحُبَّ حَرَكَةَ الضَّمِّ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْوَاهَا، مُطَابَقَةً لِشِدَّةِ حَرَكَةِ مُسَمَّاهُ وَقُوَّتِهَا‏.‏ وَأَعْطَوُا الْحِبَّ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ‏:‏ حَرَكَةَ الْكَسْرِ لِخِفَّتِهَا عَنِ الضَّمَّةِ، وَخِفَّةِ الْمَحْبُوبِ، وَخِفَّةِ ذِكْرِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ‏:‏ مِنْ إِعْطَائِهِ حُكْمَ نَظَائِرِهِ، كَنِهْبٍ بِمَعْنَى مَنْهُوبٍ، وَذِبْحٍ بِمَعْنَى مَذْبُوحٍ، وَحِمْلٍ لِلْمَحْمُولِ‏.‏ بِخِلَافِ الْحَمْلِ- الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ- لِخِفَّتِهِ‏.‏ ثُمَّ أَلْحَقُوا بِهِ حِمْلًا لَا يَشُقُّ عَلَى حَامِلِهِ حَمْلُهُ، كَحَمْلِ الشَّجَرَةِ وَالْوَلَدِ‏.‏

فَتَأَمَّلْ هَذَا اللُّطْفَ وَالْمُطَابَقَةَ وَالْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تُطْلِعْكَ عَلَى قَدْرِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَأَنَّ لَهَا شَأْنًا لَيْسَ لِسَائِرِ اللُّغَاتِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏رُسُومٌ وَحُدُودٌ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ‏]‏

فِي ذِكْرِ رُسُومٍ وَحُدُودٍ قِيلَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَسَبِ آثَارِهَا وَشَوَاهِدِهَا‏.‏ وَالْكَلَامِ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا‏.‏

الْأَوَّلُ، قِيلَ‏:‏ الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ الدَّائِمُ، بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ‏.‏

وَهَذَا الْحَدُّ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ، وَالصَّحِيحَةِ وَالْمَعْلُولَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ إِيثَارُ الْمَحْبُوبِ، عَلَى جَمِيعِ الْمَصْحُوبِ‏.‏

وَهَذَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ، فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مُوجِبُهَا وَمُقْتَضَاهَا‏.‏ وَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ الْحَدَّيْنِ قَبْلَهُ‏.‏ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَحَبَّةَ الصَّادِقَةَ الصَّحِيحَةَ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ الْمَيْلِ وَالْإِيثَارِ بِالْإِرَادَةِ‏.‏ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ تَصْحَبْهُ مُوَافَقَةٌ فَمَحَبَّتُهُ مَعْلُولَةٌ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ مَحْوُ الْحُبِّ لِصِفَاتِهِ‏.‏ وَإِثْبَاتُ الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ‏:‏ أَنْ تَنْمَحِيَ صِفَاتُ الْمُحِبِّ، وَتَفْنَى فِي صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ وَذَاتِهِ‏.‏ وَهَذَا يَسْتَدْعِي بَيَانًا أَتَمَّ مِنْ هَذَا، لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ أَفْنَاهُ وَارِدُ الْمَحَبَّةِ عَنْهُ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا‏.‏ وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ لِمُرَادَاتِ الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ وَمَرَاضِيهِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ خَوْفُ تَرْكِ الْحُرْمَةِ، مَعَ إِقَامَةِ الْخِدْمَةِ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَشَوَاهِدِهَا وَآثَارِهَا‏:‏ أَنْ يَقُومَ بِالْخِدْمَةِ كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ خَوْفِهِ مِنْ تَرْكِ الْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ نَفْسِكَ، وَاسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ حَبِيبِكَ‏.‏

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِهَا وَمُوجِبَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا‏.‏ وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ لَوْ بَذَلَ لِمَحْبُوبِهِ جَمِيعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَاسْتَقَلَّهُ وَاسْتَحْيَى مِنْهُ، وَلَوْ نَالَهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ أَيْسَرُ شَيْءٍ لَاسْتَكْثَرَهُ وَاسْتَعْظَمَهُ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ اسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ جِنَايَتِكَ، وَاسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ طَاعَتِكَ‏.‏ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا مِنَ الْمُحِبِّ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ مُعَانَقَةُ الطَّاعَةِ، وَمُبَايَنَةُ الْمُخَالَفَةِ‏.‏

وَهُوَ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏.‏ وَهُوَ أَيْضًا حُكْمُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ دُخُولُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صِفَاتِ الْمُحِبِّ‏.‏ وَهُوَ لِلْجُنَيْدِ‏.‏

وَفِيهِ غُمُوضٌ‏.‏ وَمُرَادُهُ‏:‏ أَنَّ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ حَتَّى لَا يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَا يَكُونَ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِهَا‏.‏ فَيَصِيرُ شُعُورُهُ وَإِحْسَاسُهُ بَدَلًا مِنْ شُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنًى أَشْرَفَ مِنْ هَذَا‏:‏ تُبَدَّلُ صِفَاتُ الْمُحِبِّ الذَّمِيمَةُ- الَّتِي لَا تُوَافِقُ صِفَاتِ الْمَحْبُوبِ- بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي تُوَافِقُ صِفَاتِهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْحَادِي عَشَرَ‏:‏ أَنْ تَهَبَ كُلَّكَ لِمَنْ أَحْبَبْتَ‏.‏ فَلَا يَبْقَى لَكَ مِنْكَ شَيْءٌ‏.‏

وَهُوَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ‏.‏ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ وَأَحْكَامِهَا‏.‏ وَالْمُرَادُ‏:‏ أَنْ تَهَبَ إِرَادَتَكَ وَعَزْمَكَ وَأَفْعَالَكَ وَنَفْسَكَ وَمَالَكَ وَوَقْتَكَ لِمَنْ تُحِبُّهُ وَتَجْعَلَهَا حَبْسًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ‏.‏ فَلَا تَأْخُذُ لِنَفْسِكَ مِنْهَا إِلَّا مَا أَعْطَاكَ‏.‏ فَتَأْخُذُهُ مِنْهُ لَهُ‏.‏

الثَّانِي عَشَرَ‏:‏ أَنْ تَمْحُوَ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ‏.‏ وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ، وَكَمَالُ الْمَحَبَّةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّهُ مَا دَامَتْ فِي الْقَلْبِ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِهِ وَمَسْكَنٌ لِغَيْرِهِ فَالْمَحَبَّةُ مَدْخُولَةٌ‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ إِقَامَةُ الْعِتَابَ عَلَى الدَّوَامِ‏.‏ وَهُوَ لِابْنِ عَطَاءٍ‏.‏ وَفِيهِ غُمُوضٌ‏.‏

وَمُرَادُهُ‏:‏ أَنْ لَا تَزَالَ عَاتِبًا عَلَى نَفْسِكَ فِي مَرْضَاةِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ وَأَنْ لَا تَرْضَى لَهُ فِيهَا عَمَلًا وَلَا حَالًا‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ تَغَارَ عَلَى الْمَحْبُوبِ‏:‏ أَنْ يُحِبَّهُ مِثْلُكَ‏.‏ وَهُوَ لِلشِّبْلِيِّ أَيْضًا‏.‏

وَفِيهِ كَلَامٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الْغَيْرَةِ، وَمُرَادُهُ‏:‏ احْتِقَارُكَ لِنَفْسِكَ وَاسْتِصْغَارُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ مِنْ مُحِبِّيهِ‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ إِرَادَةٌ غُرِسَتْ أَغْصَانُهَا فِي الْقَلْبِ‏.‏ فَأَثْمَرَتِ الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ يَنْسَى الْمُحِبُّ حَظَّهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَيَنْسَى حَوَائِجَهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَهُوَ لِأَبِي يَعْقُوبَ السُّوسِيِّ‏.‏ وَمُرَادُهُ‏:‏ أَنَّ اسْتِيلَاءَ سُلْطَانِهَا عَلَى قَلْبِهِ غَيَّبَهُ عَنْ حُظُوظِهِ وَعَنْ حَوَائِجِهِ‏.‏ وَانْدَرَجَتْ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْمَحَبَّةِ‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ مُجَانَبَةُ السُّلُوِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ‏.‏ وَهُوَ لِلنَّصْرَابَاذِيِّ‏.‏ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ لَوَازِمِهَا وَثَمَرَاتِهَا، كَمَا قِيلَ‏:‏

مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفَهُ *** فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِخَالِصِ الْإِرَادَةِ وَصِدْقِ الطَّلَبِ‏.‏

التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ سُقُوطُ كُلِّ مَحَبَّةٍ مِنَ الْقَلْبِ إِلَّا مَحَبَّةَ الْحَبِيبِ‏.‏ وَهُوَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ‏.‏ وَمُرَادُهُ‏:‏ تَوْحِيدُ الْمَحْبُوبِ بِالْمَحَبَّةِ‏.‏

الْعِشْرُونَ‏:‏ غَضُّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ غَيْرَةً‏.‏ وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً‏.‏ وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَبْيِينٍ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ‏:‏ فَظَاهَرٌ‏.‏ وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَإِنَّ غَضَّ طَرَفِ الْقَلْبِ عَنِ الْمَحْبُوبِ- مَعَ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ- كَالْمُسْتَحِيلِ‏.‏ وَلَكِنْ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْهَيْبَةِ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا‏.‏ وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْهَيْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ‏.‏ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ أَيْ يُعْمِي عَمَّا سِوَاهُ غَيْرَةً، وَعَنْهُ هَيْبَةً‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا مُرَادَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ‏:‏ أَنَّ حُبَّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ تَأَمُّلِ قَبَائِحِهِ وَمُسَاوِيهِ‏.‏ فَلَا تَرَاهَا وَلَا تَسْمَعُهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ‏.‏ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ‏:‏ ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّبِّ‏.‏ وَلَا يُقَالُ فِي حُبِّ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ حُبُّكَ الشَّيْءَ‏.‏ وَلَا يُوصَفُ صَاحِبُهَا بِالْعَمَى وَالصَّمَّ‏.‏

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ‏.‏ فَإِنَّ الْمُحِبَّ قَدْ يَعْمَى وَيَصِمُّ عَنْهُ بِالْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، وَلَكِنْ لَا تُوصَفُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ‏.‏ وَلَيْسَ أَهْلُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَمَى وَالصَّمَمِ‏.‏ بَلْ هُمْ أَهْلُ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ سِوَاهُمْ هُمُ الْبُكْمُ الْعُمْيُ الصُّمُّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ‏.‏

الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ مَيْلُكَ لِلشَّيْءِ بِكُلِّيَّتِكَ‏.‏ ثُمَّ إِيثَارُكَ لَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَرُوحِكَ وَمَالِكَ‏.‏ ثُمَّ مُوَافَقَتُكَ لَهُ سِرًّا وَجَهْرًا‏.‏ ثُمَّ عِلْمُكَ بِتَقْصِيرِكَ فِي حُبِّهِ‏.‏

قَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ‏.‏

الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْمَحَبَّةُ نَارٌ فِي الْقَلْبِ، تُحْرِقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ‏.‏

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ‏:‏ لُمْتُ بَعْضَ الْإِبَاحِيَّةِ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيَّ شَيْءٍ أَبْغَضَ مِنْهُ‏؟‏

قَالَ الشَّيْخُ‏:‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ أَفْعَالًا وَأَقْوَالًا وَأَقْوَامًا وَعَادَاهُمْ فَطَرَدَهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ‏:‏ تَكُونُ مُوَالِيًا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ مُعَادِيًا لَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا‏.‏ وَافْتُضِحَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ‏.‏ وَكَانَ مُقَدَّمًا فِيهِمْ مُشَارًا إِلَيْهِ‏.‏

وَهَذَا الْحَدُّ صَحِيحٌ‏:‏ وَقَائِلُهُ إِنَّمَا أَرَادَ‏:‏ أَنَّهَا تُحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، لَا الْمُرَادَ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ‏.‏ لَكِنْ لِقِلَّةِ حَظِّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ‏:‏ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ‏.‏

الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْمَحَبَّةُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَحْبُوبِ‏.‏ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُقُوقِهَا وَثَمَرَاتِهَا‏.‏ وَمُوجِبَاتِهَا‏.‏

الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ سُكْرٌ لَا يَصْحُو صَاحِبُهُ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبِهِ‏.‏ ثُمَّ السُّكْرُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ لَا يُوصَفُ، وَأَنْشَدَ‏:‏

فَأَسْكَرَ الْقَوْمَ دَوْرُ الْكَأْسِ بَيْنَهُمْ *** لَكِنَّ سُكْرِي نَشَا مِنْ رُؤْيَةِ السَّاقِي

وَيَنْبَغِي صَوْنُ الْمَحَبَّةِ وَالْحَبِيبِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، الَّتِي غَايَةُ صَاحِبِهَا‏:‏ أَنْ يُعْذَرَ بِصِدْقِهِ وَغَلَبَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَقَهْرِهِ لَهُ‏.‏ فَمَحَبَّةُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ لَهَا هَذِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُجْعَلَ عُرْضَةً لِلْأَفْوَاهِ الْمُتَلَوِّثَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَكِنَّ الصَّادِقَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ‏.‏

الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَلَى الْمَحْبُوبِ غَيْرُهُ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى أُمُورَكَ غَيْرُهُ‏.‏

السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ الْمَحْبُوبِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْحُرِّيَّةُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَا سِوَاهُ‏.‏

السَّابِعَ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْمَحَبَّةُ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ، وَلَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ عَلَى الدَّوَامِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَمَّا سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَحْبُوبِ‏:‏ فَهُوَ الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَمَّا لَهَجُ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ‏:‏ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مَنْ ذِكْرِهِ‏.‏

الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ‏.‏ وَلَا تَزِيدُ بِالْبِرِّ‏.‏ وَهُوَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، بَلِ الْإِرَادَةُ وَالطَّلَبُ وَالشَّوْقُ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِذَاتِهِ، فَلَا يُنْقِصُ ذَلِكَ جَفَاؤُهُ‏.‏ وَلَا يَزِيدُهُ بِرُّهُ‏.‏

وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ‏.‏ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ الذَّاتِيَّةَ تَزِيدُ بِالْبِرِّ‏.‏ وَلَا تُنْقِصُهَا زِيَادَتُهَا بِالْبِرِّ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَ يَحْيَى‏:‏ أَنَّ الْقَلْبَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْمَحَبَّةِ الذَّاتِيَّةِ‏.‏ فَإِذَا جَاءَ الْبِرُّ مِنْ مَحْبُوبِهِ‏.‏ لَمْ يَجِدْ فِي الْقَلْبِ مَكَانًا خَالِيًا مِنْ حُبِّهِ يَشْغَلُهُ مَحَبَّةُ الْبِرِّ‏.‏ بَلْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ بِلَا سَبَبٍ‏.‏ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُزِيلُ الْوَهْمَ‏.‏ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا‏.‏ وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الْمَعْرِفَةُ وَالْبِرُّ قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ‏.‏ وَلَا نِهَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَلَا بِرِّهِ‏.‏ فَلَا نِهَايَةَ لِمَحَبَّتِهِ، بَلْ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَحَبَّةُ الْخَلْقِ كُلِّهُمْ وَكَانَتْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ‏:‏ كَانَ ذَلِكَ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ‏.‏ وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِشْقًا- كَمَا سَيَأْتِي- لِأَنَّهُ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِلُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ إِلَى حَدِّ الْإِفْرَاطِ، أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ‏:‏ الْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّكَ بِالْمَحْبُوبِ مَشْغُولًا، وَذَلِكَ لَهُ مَبْذُولًا‏.‏

الثَّلَاثُونَ‏:‏ وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ مَا قِيلَ فِي الْمَحَبَّةِ فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ‏:‏ جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ- أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى- أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا‏.‏ وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ‏.‏ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَتْ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ‏.‏ وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ‏.‏ وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ‏.‏ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ‏.‏ وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ‏.‏ وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ‏.‏ وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ‏.‏ فَهُوَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ‏.‏

فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا‏:‏ مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ‏.‏ جَزَاكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ أَسْبَابُ الْمَحَبَّةِ

فِي الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمُوجِبَةِ لَهَا وَهِيَ عَشَرَةٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ‏.‏ لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ‏.‏ فَإِنَّهَا تُوَصِّلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ‏:‏ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ‏.‏ فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ، وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا‏.‏ وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِيهَا‏.‏ فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ‏:‏ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ‏.‏ وَلِهَذَا كَانَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفِرْعَوْنِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَحْبُوبِ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ‏.‏ فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّتِهِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِهَا، انْكِسَارُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَلَيْسَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ الْخَلْوَةُ بِهِ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، لِمُنَاجَاتِهِ وَتِلَاوَةِ كَلَامِهِ، وَالْوُقُوفِ بِالْقَلْبِ وَالتَّأَدُّبِ بِأَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ‏.‏ ثُمَّ خَتْمِ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ مُجَالَسَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ، وَالْتِقَاطُ أَطَايِبِ ثَمَرَاتِ كَلَامِهِمْ كَمَا يَنْتَقِي أَطَايِبَ الثَّمَرِ‏.‏ وَلَا تَتَكَلَّمْ إِلَّا إِذَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَةُ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَزِيدًا لِحَالِكَ، وَمَنْفَعَةً لِغَيْرِكَ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ مُبَاعَدَةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

فَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشْرَةِ‏:‏ وَصَلَ الْمُحِبُّونَ إِلَى مَنَازِلِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَدَخَلُوا عَلَى الْحَبِيبِ‏.‏ وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَمْرَانِ‏:‏ اسْتِعْدَادُ الرُّوحِ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَانْفِتَاحُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ‏.‏ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ‏]‏

وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مُعَلَّقٌ بِطَرَفَيْنِ‏:‏ طَرَفُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ‏.‏ وَطَرَفُ مَحَبَّةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ‏.‏ وَالنَّاسُ فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ‏:‏ فَأَهْلٌ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى إِثْبَاتِ الطَّرَفَيْنِ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ تُقَدَّرُ‏.‏ وَلَا نِسْبَةَ لِسَائِرِ الْمَحَابِّ إِلَيْهَا‏.‏ وَهِيَ حَقِيقَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ‏:‏ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا‏.‏ فَإِنَّهُ لِمَا أَحَبَّهُمْ كَانَ نَصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ أَتَمَّ نَصِيبٍ‏.‏

وَالْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ وَمَا قَالُوهُ عَنِ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ عَكْسُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ‏.‏ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ تَكْذِيبُ النُّصُوصِ‏.‏ فَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ عَلَى مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ‏.‏ وَالِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِيَنَالُوا بِهَا الثَّوَابَ‏.‏ وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ بِهَا لَفْظَ الْمَحَبَّةِ فَلِمَا يَنَالُونَ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَالثَّوَابُ الْمُنْفَصِلُ عِنْدَهُمْ‏:‏ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ‏.‏ وَالرَّبُّ تَعَالَى مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ حُبَّ الْوَسَائِلِ‏.‏

وَأَوَّلُوا نُصُوصَ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ‏.‏ وَإِعْطَائِهِمُ الثَّوَابَ‏.‏ وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ وَمَدْحِهِ لَهُمْ‏.‏ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏ وَرُبَّمَا أَوَّلُوهَا بِإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ‏.‏ فَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِالْمَفْعُولِ الْمُنْفَصِلِ‏.‏ وَتَارَةً يُؤَوِّلُونَهَا بِنَفْسِ الْإِرَادَةِ‏.‏

وَيَقُولُونَ‏:‏ الْإِرَادَةُ إِنْ تَعَلَّقَتْ بِتَخْصِيصِ الْعَبْدِ بِالْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ‏:‏ سُمِّيَتْ مَحَبَّةً، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ‏:‏ سُمِّيَتْ غَضَبًا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعُمُومِ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ الْخَاصِّ‏:‏ سُمِّيَتْ بِرًّا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِإِيصَالِهِ فِي خَفَاءٍ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَلَا يَحْتَسِبُ‏:‏ سُمِّيَتْ لُطْفًا وَهِيَ وَاحِدَةٌ‏.‏ وَلَهَا أَسْمَاءٌ وَأَحْكَامٌ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهَا‏.‏

وَمَنْ جَعَلَ مَحَبَّتَهُ لِلْعَبْدِ ثَنَاءَهُ عَلَيْهِ وَمَدْحَهُ لَهُ‏:‏ رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْكَلَامِ‏.‏ فَهِيَ عِنْدُهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، لَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ‏.‏ وَالْفِعْلُ عِنْدَهُ نَفْسُ الْمَفْعُولِ‏.‏ فَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِ الرَّبِّ مَحَبَّةٌ لِعَبْدِهِ، وَلَا لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَمَنْ رَدَّهَا إِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ جَعَلَهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْإِرَادَةِ، وَمِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا‏.‏

وَلِمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِرَادَةٌ، مَنْ رَأَى ذَلِكَ قَالَ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثِ الْمَقْدُورِ، وَالْقَدِيمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُرَادَ‏:‏ أَنْكَرُوا مَحَبَّةَ الْعِبَادِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ لَهُ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَإِرَادَةُ عِبَادَتِهِ‏.‏ فَأَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْإِلَهِيَّةِ، وَخَاصَّةَ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ‏.‏ فَعِنْدَهُمْ لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ إِلَّا بِجَحْدِ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَجَحْدِ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

وَجَمِيعُ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ- عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً، وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا، وَذْوَقًا وَوَجْدًا- تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَالرَّبِّ لِعَبْدِهِ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا لِذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ طَرِيقٍ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ فِي الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَذَكَرْنَا فِيهِ فَوَائِدَ الْمَحَبَّةِ، وَمَا تُثْمِرُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَأَسْبَابَهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا‏.‏ وَبَيَانَ فَسَادِ قَوْلِهِ، وَأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ قَدْ أَنْكَرُوا خَاصَّةَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْغَايَةَ الَّتِي وُجِدُوا لِأَجْلِهَا‏.‏ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ‏:‏ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَلِأَجْلِهَا‏.‏ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي بِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ‏.‏ وَهِيَ سِرُّ التَّأْلِيهِ‏.‏ وَتَوْحِيدُهَا‏:‏ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُنْكِرُونَ‏:‏ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ‏.‏ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ، وَبِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏ وَلَمْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ‏.‏ وَهُوَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ، بَلْ كَانُوا يُؤَلِّهُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ‏.‏ وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَصَاحِبُهُ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، فَهَذَا نِدٌّ فِي الْمَحَبَّةِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا النِّدَّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، بِخِلَافِ نِدِّ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا فِي الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ وَفِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ قَوْلَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُحِبُّونَهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَنْدَادِ لِلَّهِ‏.‏ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ خَالِصَةٌ، وَمَحَبَّةَ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ قَدْ ذَهَبَتْ أَنْدَادُهُمْ بِقِسْطٍ مِنْهَا‏.‏ وَالْمَحَبَّةُ الْخَالِصَةُ‏:‏ أَشَدُّ مِنَ الْمُشْتَرَكَةِ‏.‏ وَالْقَوْلَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ فَإِنَّ فِيهَا قَوْلَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ‏.‏ فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ‏.‏ وَلَكِنَّهَا مَحَبَّةٌ يُشْرِكُونَ فِيهَا مَعَ اللَّهِ أَنْدَادًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمَعْنَى يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَمَا يُحِبُّ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ‏.‏ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ مَحَبَّةِ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ‏.‏

وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا ذُمُّوا بِأَنْ أَشْرَكُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْدَادِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَلَمْ يُخْلِصُوهَا لِلَّهِ كَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ‏.‏

وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ‏.‏ وَهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ لِآلِهَتِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَهِيَ مُحْضَرَةٌ مَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَوُّوهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْخَلْقِ وَالرُّبُوبِيَّةِ‏.‏ وَإِنَّمَا سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ‏.‏‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعَدْلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أَيْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ‏.‏ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْبَاءُ‏.‏ بِمَعْنَى ‏"‏ عَنْ ‏"‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ‏.‏ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ‏.‏ إِذْ لَا تَقُولُ الْعَرَبُ عَدَلْتُ بِكَذَا، أَيْ عَدَلْتُ عَنْهُ‏.‏ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي فِعْلِ السُّؤَالِ‏.‏ نَحْوَ‏:‏ سَأَلْتُ بِكَذَا‏.‏ أَيْ عَنْهُ‏.‏ كَأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ‏:‏ اعْتَنَيْتُ بِهِ وَاهْتَمَمْتُ‏.‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ وَهِيَ تُسَمَّى آيَةُ الْمَحَبَّةِ‏.‏ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ‏:‏ لَمَّا ادَّعَتِ الْقُلُوبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ‏:‏ أَنْزَلَ اللَّهُ لَهَا مِحْنَةً ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمِحْنَةِ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

وَقَالَ ‏"‏ ‏{‏يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ ‏"‏ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْمَحَبَّةِ وَثَمَرَتِهَا، وَفَائِدَتِهَا‏.‏ فَدَلِيلُهَا وَعَلَامَتُهَا‏:‏ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ‏.‏ وَفَائِدَتُهَا وَثَمَرَتُهَا‏:‏ مَحَبَّةُ الْمُرْسَلِ لَكُمْ‏.‏ فَمَا لَمْ تَحْصُلِ الْمُتَابَعَةُ‏.‏ فَلَيْسَتْ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ حَاصِلَةً‏.‏ وَمَحَبَّتُهُ لَكُمْ مُنْتَفِيَةً‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏}‏ فَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ أَرْبَعَ عَلَامَاتٍ لِلَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَ يُحِبُّونَهُ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ أَرِقَّاءُ، رُحَمَاءُ مُشْفِقُونَ عَلَيْهِمْ‏.‏ عَاطِفُونَ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلَمَّا ضَمَّنَ أَذِلَّةً هَذَا الْمَعْنَى عَدَّاهُ بِأَدَاةِ ‏"‏ عَلَى ‏"‏‏.‏ قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ‏.‏ وَعَلَى الْكَافِرِينَ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ ‏{‏أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

الْعَلَامَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّفْسِ وَالْيَدِ، وَاللِّسَانِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ تَحْقِيقُ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ‏.‏

الْعَلَامَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ أَنَّهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ‏.‏ وَهَذَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْمَحَبَّةِ فَكُلُّ مُحِبٍّ يَأْخُذُهُ اللَّوْمُ عَنْ مَحْبُوبِهِ فَلَيْسَ بِمُحِبٍّ عَلَى الْحَقِيقَةِ‏.‏ كَمَا قِيلَ‏:‏

لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ *** يَجِدُ السَّبِيلَ بِهَا إِلَيْهِ اللُّوَمُ

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏- إِلَى قوله‏:‏ ‏{‏مَحْذُورًا‏}‏ فَذِكْرُ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ‏:‏ الْحُبُّ‏.‏ وَهُوَ ابْتِغَاءُ الْقُرْبِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ‏.‏ وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ‏:‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَسِيلَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَخَوْفِ الْعَذَابِ‏.‏

وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا‏:‏ أَنَّكَ لَا تَتَنَافَسُ إِلَّا فِي قُرْبِ مَنْ تُحِبُّ قُرْبَهُ، وَحُبُّ قُرْبِهِ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ ذَاتِهِ‏.‏ بَلْ مَحَبَّةُ ذَاتِهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ‏.‏ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ‏:‏ مَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ‏.‏ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ لَا تَقْرَبُ ذَاتُهُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَا يَقْرَبُ مِنْ ذَاتِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ‏.‏ وَلَا يُحَبُّ‏.‏

فَأَنْكَرُوا حَيَاةَ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمَ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةَ النُّفُوسِ، وَقُرَّةَ الْعُيُونِ، وَأَعْلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ وَلِذَلِكَ ضُرِبَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْقَسْوَةِ، وَضُرِبَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ اللَّهِ حُجُبٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ‏.‏ فَلَا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يُحِبُّونَهُ‏.‏ وَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا عِنْدَ تَعْطِيلِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَذِكْرُهُمْ أَعْظَمُ آثَامِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ‏.‏

بَلْ يُعَاقِبُونَ مَنْ يَذْكُرُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ‏.‏ وَيَرْمُونَهُمْ بِالْأَدْوَاءِ الَّتِي هُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، وَحَسْبُ ذِي الْبَصِيرَةِ وَحَيَاةِ الْقَلْبِ‏:‏ مَا يَرَى عَلَى كَلَامِهِمْ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْمَقْتِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ وقال أَحْبَابُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى

إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى‏}‏ فَجَعَلَ غَايَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُحِبِّينَ‏:‏ إِرَادَةَ وَجْهِهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ فَجَعَلَ إِرَادَتَهُ غَيْرَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ‏.‏

وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لِوَجْهِهِ مُوجِبَةٌ لِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو‏:‏ اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ‏:‏ أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي‏.‏ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏.‏ وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا‏.‏ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى‏.‏ وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ‏.‏ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ‏.‏ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ‏.‏ وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ‏.‏ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ‏.‏ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ‏.‏

فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى ثُبُوتِ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ‏.‏ وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ لَا وَجْهَ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ، فَضْلًا أَنْ يَحْصُلَ بِهِ لَذَّةٌ‏.‏ كَمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ دَاعِيًا يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ‏:‏ وَيْحَكَ‏!‏ هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا، أَفَتَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ‏؟‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ ثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا‏.‏ وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ‏.‏ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ‏.‏ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ‏.‏ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ‏.‏ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا‏.‏ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ‏.‏ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ‏.‏ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ‏.‏ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ‏.‏ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ‏.‏ وَذَكَرَ فِي الْبُغْضِ عَكْسَ ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ ‏"‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏"‏ لِأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ‏:‏ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ‏.‏ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ‏.‏

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ‏.‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي‏.‏ وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ‏.‏

وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ‏.‏ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ‏.‏

وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ‏.‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏، ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏}‏، ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏، ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا‏}‏‏.‏

وَكَمْ فِي السُّنَّةِ ‏"‏ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا ‏"‏، وَ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا ‏"‏ كَقَوْلِهِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ وَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ‏.‏

وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ‏.‏ وَفَرَحُهُ الْعَظِيمُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَرَحٍ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ‏.‏ وَهُوَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلتَّوْبَةِ وَلِلتَّائِبِ‏.‏

فَلَوْ بَطَلَتْ مَسْأَلَةُ الْمَحَبَّةِ لَبَطَلَتْ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ‏.‏ وَلَتَعَطَّلَتْ مَنَازِلُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ‏.‏

فَإِنَّهَا رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ وَمَنْزِلَةٍ وَعَمَلٍ‏.‏ فَإِذَا خَلَا مِنْهَا فَهُوَ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ‏.‏ وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَعْمَالِ كَنِسْبَةِ الْإِخْلَاصِ إِلَيْهَا‏.‏ بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، بَلْ هِيَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ‏.‏ فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ‏.‏ فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏ بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ‏.‏ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ‏.‏ أَيْ تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ‏.‏

وَأَصْلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ‏.‏ وَالتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ‏:‏ إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ‏.‏

فَـ ‏"‏ الْمَحَبَّةُ ‏"‏ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَهَلْ تُمْكِنُ الْإِنَابَةُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ‏!‏‏!‏ وَهَلِ الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا صَبْرَ الْمُحِبِّينَ‏!‏‏!‏ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَكَّلُ عَلَى الْمَحْبُوبِ فِي حُصُولِ مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ هُوَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ‏.‏ فَإِنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي مَحَبَّةِ مَا سِوَى مَحْبُوبِهِمْ لِمَحَبَّتِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْحَيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّينَ‏.‏ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ‏.‏ وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ عَنْ مَحَبَّةٍ‏:‏ فَذَلِكَ خَوْفٌ مَحْضٌ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَقَامُ الْفَقْرِ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقْرُ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَحْبُوبِهَا‏.‏ وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَقْرِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا فَقْرَ أَتَمُّ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ‏.‏ لَا سِيَّمَا إِذَا وَحَّدَهُ فِي الْحُبِّ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ عِوَضًا سِوَاهُ‏.‏ هَذَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِقَائِهِ‏.‏ فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا‏.‏ كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

فَمُنْكِرُ الْمَحَبَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُعَطِّلُهَا مِنَ الْقُلُوبِ‏:‏ مُعَطِّلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏ وَحِجَابُهُ أَكْثَفُ الْحُجُبِ‏.‏ وَقَلْبُهُ أَقْسَى الْقُلُوبِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ اللَّهِ‏.‏ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِخُلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏ فَإِنَّ الْخُلَّةَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَهُوَ يَتَأَوَّلُ الْخَلِيلَ بِالْمُحْتَاجِ‏.‏ فَخَلِيلُ اللَّهِ عِنْدَهُ‏:‏ هُوَ الْمُحْتَاجُ‏.‏ فَكَمْ- عَلَى قَوْلِهِ- لِلَّهِ مِنْ خَلِيلٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، بَلْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ‏.‏ إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ مَنْ يُنْزِلُ حَوَائِجَهُ كُلَّهَا بِاللَّهِ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا‏.‏ وَيَرَى نَفْسَهُ أَحْوَجَ شَيْءٍ إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ‏.‏

فَلَا بِالْخُلَّةِ أَقَرَّ الْمُنْكِرُونَ، وَلَا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَلَا بِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا بِحَقَائِقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ‏.‏ وَلِهَذَا ضَحَّى خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِمُقَدَّمِ هَؤُلَاءِ وَشَيْخِهِمْ جَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ فِي يَوْمِ عِيدِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ، عَقِيبَ خُطْبَتِهِ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا‏.‏ تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ‏.‏ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ‏.‏ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا‏.‏ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏ ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَشَكَرَ الْمُسْلِمُونَ سَعْيَهُ‏.‏ وَرَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ فِي مَرَاتِبِ الْمَحَبَّةِ

أَوَّلُهَا‏:‏ الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ‏.‏ قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَعَلَاقَةً أُمَّ الْوَلِيدِ بُعَيْدَ مَا *** أَفْنَانُ رَأْسِكِ كَالثَّغَامِ الْمُخْلِسِ

الثَّانِيَةُ‏:‏ الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ‏.‏ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ‏.‏ كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ‏.‏ فَاسْمُ الصِّفَةِ مِنْهَا صَبٌّ وَالْفِعْلُ صَبَا إِلَيْهِ يَصْبُو صَبًا، وَصَبَابَةً، فَعَاقَبُوا بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمُعْتَلِّ، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ مِنَ الْمُعْتَلِّ وَالصِّفَةَ مِنَ الْمُضَاعَفِ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ صَبَا وَصَبْوَةً، وَصَبَابَةً‏.‏ فَالصَّبَا‏:‏ أَصْلُ الْمَيْلِ‏.‏ وَالصَّبْوَةُ‏:‏ فَوْقَهُ، وَالصَّبَابَةُ‏:‏ الْمَيْلُ اللَّازِمُ‏.‏ وَانْصِبَابُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ‏.‏

الرَّابِعَةُ‏:‏ الْغَرَامُ وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ‏.‏ بَلْ يُلَازِمُهُ كَمُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ‏.‏ وَمِنْهُ سُمِّيَ عَذَابُ النَّارِ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِأَهْلِهِ‏.‏ وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا‏}‏‏.‏

الْخَامِسَةُ‏:‏ الْوِدَادُ وَهُوَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، مَرَاتِبُهَا عَشَرَةٌ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا، وَالْوَدُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى‏.‏ وَفِيهِ قَوْلَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ الْمَوْدُودُ‏.‏ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ‏:‏ الْوَدُودُ الْحَبِيبُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ الْوَادُّ لِعِبَادِهِ‏.‏ أَيِ الْمُحِبُّ لَهُمْ‏.‏ وَقَرَنَهُ بِاسْمِهِ الْغَفُورِ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيُحِبُّ التَّائِبَ مِنْهُ، وَيَوَدُّهُ‏.‏ فَحَظُّ التَّائِبِ‏:‏ نَيْلُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ‏.‏

وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ‏"‏ الْوَدُودُ ‏"‏ فِي مَعْنًى يَكُونُ سِرُّ الِاقْتِرَانِ‏.‏ أَيِ اقْتِرَانُ ‏"‏ الْوَدُودِ بِالْغَفُورِ ‏"‏ اسْتِدْعَاءَ مَوَدَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْغَفُورِ‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ الشَّغَفُ يُقَالُ‏:‏ شُغِفَ بِكَذَا‏.‏ فَهُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ‏.‏ وَقَدْ شَغَفَهُ الْمَحْبُوبُ‏.‏ أَيْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ النِّسْوَةُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ‏:‏ ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا‏}‏ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهُ الْحُبُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَحْجُبُهُ عَنْ غَيْرِهِ‏.‏ قَالَ الْكَلْبِيُّ‏:‏ حَجَبَ حُبُّهُ قَلْبَهَا حَتَّى لَا تَعْقِلَ سِوَاهُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ‏.‏ قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ الْمَعْنَى أَحَبَّتْهُ حَتَّى دَخَلَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا، أَيْ دَاخِلَهُ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى غِشَاءِ الْقَلْبِ‏.‏ وَالشَّغَافُ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا وَصَلَ الْحُبُّ إِلَيْهِ بَاشَرَ الْقَلْبَ‏.‏ قَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ عَلَى الْقَلْبِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ دَخَلَهُ الْحُبُّ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ‏.‏

وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ ‏"‏ شَعَفَهَا ‏"‏ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ‏.‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ ذَهَبَ الْحُبُّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ‏.‏ وَبَلَغَ بِهَا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ‏:‏ شَعَفُ الْجِبَالِ، لِرُءُوسِهَا‏.‏

السَّابِعَةُ‏:‏ الْعِشْقُ وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ‏.‏ وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ‏{‏وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ قَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ هُوَ الْعِشْقُ‏.‏

وَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- شَابٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَهُوَ يَعْرِفُهُ- قَدْ صَارَ كَالْخَلَالِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا بِهِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ الْعِشْقُ‏.‏ فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَامَّةَ دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ‏:‏ الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الْعِشْقِ‏.‏

وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ مِنَ الْعَشَقَةِ- مُحَرَّكَةً- وَهِيَ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، فَشُبِّهَ بِهِ الْعَاشِقُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ‏.‏ وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ‏:‏ فَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ‏.‏ وَإِنْ أَطْلَقَهُ سَكْرَانُ مِنَ الْمَحَبَّةِ قَدْ أَفْنَاهُ الْحُبُّ عَنْ تَمْيِيزِهِ‏.‏ كَانَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ‏.‏

الثَّامِنَةُ‏:‏ التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ‏.‏ يُقَالُ‏:‏ تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ ذَلَّلَهُ وَعَبَّدَهُ‏.‏ وَتَيْمُ اللَّهُ‏:‏ عَبْدُ اللَّهِ‏.‏ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيُتْمِ- الَّذِي هُوَ الِانْفِرَادُ- تَلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَتَنَاسُبٌ فِي الْمَعْنَى‏.‏ فَإِنَّ الْمُتَيَّمَ الْمُنْفَرِدُ بِحُبِّهِ وَشَجْوِهِ‏.‏ كَانْفِرَادِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَكْسُورٌ ذَلِيلٌ‏.‏ هَذَا كَسَرَهُ يُتْمٌ‏.‏ وَهَذَا كَسَرَهُ تَتَيُّمٌ‏.‏

التَّاسِعَةُ‏:‏ التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ‏.‏ فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ‏.‏ بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا‏.‏ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا‏.‏

وَلَمَّا كَمَّلَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ‏:‏ وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ‏.‏ مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، كَقوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ‏.‏ كَقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ وَمَقَامِ التَّحَدِّي كَقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏

وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ- بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ‏"‏ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ‏"‏‏.‏

سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ‏:‏ فَحَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ‏.‏ بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ‏.‏

وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ‏:‏ الْحُبُّ التَّامُّ، مَعَ الذُّلِّ التَّامِّ وَالْخُضُوعِ لِلْمَحْبُوبِ‏.‏ تَقُولُ الْعَرَبُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَسَهَّلَتْهُ‏.‏

الْعَاشِرَةُ‏:‏ مَرْتَبَةُ الْخُلَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْخَلِيلَانِ- إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا‏.‏ وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ‏.‏ وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ‏.‏

وَهُمَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ‏.‏ وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ‏.‏

وَالْخُلَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ‏:‏

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي *** وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا

وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أُمِرَ الْخَلِيلُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ‏.‏ وَالْخُلَّةُ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ‏.‏ فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِهِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ‏.‏ فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ‏.‏ لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمَ مِنْ قَلْبِهِ‏.‏

فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جَازِمًا‏:‏ حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ‏.‏ فَلَمْ يَبْقَ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْوَلَدِ مَصْلَحَةٌ‏.‏ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ‏.‏ وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ‏.‏ وَقِيلَ لَهُ‏:‏ ‏{‏يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا‏}‏ أَيْ عَمِلْتَ عَمَلَ الْمُصَدِّقِ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ نَجْزِي مَنْ بَادَرَ إِلَى طَاعَتِنَا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَمَا أَقْرَرْنَا عَيْنَكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرَنَا، وَإِبْقَاءِ الْوَلَدِ وَسَلَامَتِهِ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ‏}‏ وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ‏.‏ فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهُوَ بَلَاءُ مِحْنَةٍ وَمِنْحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا‏.‏

وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا بِهَا خَوَاصُّ خَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ مِنْهُمْ‏.‏ فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُجِيبُ دَاعِيهَا‏.‏ وَلَا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِهَا‏.‏ وَأَهْلُهَا هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي وَسَطِ قَبْضَةِ الْيَمِينِ يَوْمَ الْقَبْضَتَيْنِ‏.‏ وَسَائِرُ أَهْلِ الْيَمِينِ فِي أَطْرَافِهَا‏.‏

فَمَا كَلُّ عَيْنٍ بِالْحَبِيبِ قَرِيرَةً *** وَلَا كُلُّ مَنْ نُودِيَ يُجِيبُ الْمُنَادِيَا

وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ هُدَاكَ فَخَلِّهِ *** يُجِبْ كُلَّ مَنْ أَضْحَى إِلَى الْغَيِّ دَاعِيَا

وَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمَّدِ‏:‏ إِيَّاكِ أَنْ تَرَيْ *** سَنَا الشَّمْسِ فَاسْتَغْشَيْ ظَلَامَ اللَّيَالِيَا

وَسَامِحْ نُفُوسًا لَمْ يَهَبْهَا لِحِبِّهِمْ *** وَدَعْهَا وَمَا اخْتَارَتْ وَلَا تَكُ جَافِيَا

وَقُلْ لِلَّذِي قَدْ غَابَ يَكْفِي عُقُوبَةُ *** مَغِيبِكَ عَنْ ذَا الشَّأْنِ لَوْ كُنْتَ وَاعِيَا

وَوَاللَّهِ لَوْ أَضْحَى نَصِيبُكَ وَافِرًا *** رَحِمْتَ عَدُوًّا حَاسِدًا لَكَ قَالِيَا

أَلَمْ تَرَ آثَارَ الْقَطِيعَةِ قَدْ بَدَتْ *** عَلَى حَالِهِ فَارْحَمْهُ إِنْ كُنْتَ رَاثِيَا

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ *** وَلَاءَمَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ بَادِيَا

فَجَالَتْ وَصَالَتْ فِيهِ حَتَّى إِذَا النَّـ *** هَارُ بَدَا اسْتَخْفَتْ وَأَعْطَتْ تَوَارِيَا

فَيَا مِحْنَةَ الْحَسْنَاءِ تُهْدَى إِلَى امْرِئٍ *** ضَرِيرٍ وَعِنِّينٍ مِنَ الْوَجْدِ خَالِيَا

إِذَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ انْجَلَتْ بِضِيَائِهَا *** يَعُودُ لِعَيْنَيْهِ ظَلَامًا كَمَا هِيَا

فَضِنَّ بِهَا إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ قَدْرَهَا *** إِلَى أَنْ تَرَى كُفْؤًا أَتَاكَ مُوَافِيَا

فَمَا مَهْرُهَا شَيْءٌ سِوَى الرُّوحِ أَيُّهَا الْـ *** جَبَانُ تَأَخَّرْ لَسْتَ كُفْؤًا مُسَاوِيَا

فَكُنْ أَبَدًا حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبُ الْـ *** مَحَبَّةِ فِي ظَهْرِ الْعَزَائِمِ سَارِيَا

وَأَدْلِجْ وَلَا تَخْشَ الظَّلَامَ فَإِنَّهُ *** سَيَكْفِيكَ وَجْهُ الْحُبِّ فِي اللَّيْلِ هَادِيَا

وَسُقْهَا بِذِكْرَاهُ مَطَايَاكَ إِنَّهُ *** سَيَكْفِي الْمَطَايَا طِيبُ ذِكْرَاهُ حَادِيَا

وَعِدْهَا بِرُوحِ الْوَصْلِ تُعْطِيكَ سَيْرَهَا *** فَمَا شِئْتَ وَاسْتَبْقِ الْعِظَامَ الْبَوَالِيَا

وَأَقْدِمْ فَإِمَّا مُنْيَةٌ أَوْ مَنِيَّةٌ *** تُرِيحُكَ مِنْ عَيْشٍ بِهِ لَسْتَ رَاضِيَا

فَمَا ثَمَّ إِلَّا الْوَصْلُ أَوْ كَلَفٌ بِهِمْ *** وَحَسْبُكَ فَوْزًا ذَاكَ إِنْ كُنْتَ وَاعِيَا

أَمَا سَئِمَتْ مِنْ عَيْشِهَا نَفْسُ وَالِهٍ *** تَبِيتُ بِنَارِ الْبُعْدِ تَلْقَى الْمَكَاوِيَا

أَمَا مَوْتُهُ فِيهِمْ حَيَاةٌ‏؟‏ وَذُلُّهُ *** هُوَ الْعِزُّ وَالتَّوْفِيقُ مَا زَالَ غَالِيَا

أَمَا يَسْتَحِي مَنْ يَدَّعِي الْحُبَّ بَاخِلًا *** بِمَا لِحَبِيبٍ عَنْهُ يَدْعُوهُ ذَا لِيَا

أَمَا تِلْكَ دَعْوَى كَاذِبٍ لَيْسَ حَظُّهُ *** مِنَ الْحُبِّ إِلَّا قَوْلَهُ وَالْأَمَانِيَا

أَمَّا أَنْفُسُ الْعُشَّاقِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِمْ *** بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحُبِّ مَا زَالَ فَاشِيَا

أَمَا سَمِعَ الْعُشَّاقُ قَوْلَ حَبِيبَةٍ *** لِصَبٍّ بِهَا وَافَى مِنَ الْحُبِّ شَاكِيَا

وَلَمَّا شَكَوْتُ الْحُبَّ قَالَتْ‏.‏ كَذَبْتَنِي *** فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا

فَلَا حُبَّ حَتَّى يَلْصَقَ الْقَلْبُ بِالْحَشَا *** وَتَخْرَسَ حَتَّى لَا تُجِيبَ الْمُنَادِيَا

وَتَنْحَلُّ حَتَّى لَا يُبْقِي لَكَ الْهَوَى *** سِوَى مُقْلَةٍ تَبْكِي بِهَا وَتُنَاجِيَا

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْمَحَبَّةُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

الْمَحَبَّةُ حَقِيقَتُهَا‏:‏ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ تَعَلُّقًا مُقْتَرِنًا بِهِمَّةِ الْمُحِبِّ، وَأُنْسِهِ بِالْمَحْبُوبِ، فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ‏.‏ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ‏.‏

وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ نِهَايَةُ شِدَّةِ الطَّلَبِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ‏:‏ كَانَتِ الْهِمَّةُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّهِ، وَجُمْلَةِ صِفَاتِهِ‏.‏ وَلَمَّا كَانَ الطَّلَبُ بِالْهِمَّةِ قَدْ يَعْرَى عَنِ الْأُنْسِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَأْنِسًا بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ، وَطَمَعِهِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ‏.‏ فَمِنْ هَذَيْنِ يَتَوَلَّدُ الْأُنْسُ‏:‏ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِبُّ مَوْصُوفًا بِالْأُنْسِ‏.‏ فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ‏.‏

وَيُرِيدُ بِالْبَذْلِ وَالْمَنْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ‏:‏ إِمَّا بَذْلُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ لِمَحْبُوبِهِ، وَمَنْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ‏.‏ فَيَكُونُ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ صِفَةَ الْمُحِبِّ، وَإِمَّا بَذْلُ الْحَبِيبِ وَمَنْعُهُ‏.‏ فَتَتَعَلَّقُ هِمَّةُ الْمُحِبِّ بِهِ فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ‏.‏

وَيُرِيدُ بِالْإِفْرَادِ مَعْنَيَيْنِ‏:‏ إِمَّا إِفْرَادُ الْمَحْبُوبِ وَتَوْحِيدُهُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ‏.‏ وَإِمَّا فَنَاءُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَحْدَهُ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ إِفْرَادُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَحَبَّةِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْمَحَبَّةُ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَالْمَحَبَّةُ‏:‏ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ، وَالْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ‏.‏ وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلٍ تَلْتَقِي فِيهِ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ‏.‏

إِنَّمَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مَنْزِلَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلَ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ‏:‏ لِأَنَّهَا تُفْنِي خَوَاطِرَ الْمُحِبِّ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ‏.‏ وَأَوَّلُ مَا يَفْنَى مِنَ الْمُحِبِّ‏:‏ خَوَاطِرُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا سِوَى مَحْبُوبِهِ‏.‏ لِأَنَّهُ إِذَا انْجَذَبَ قَلْبُهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ انْجَذَبَتْ خَوَاطِرُهُ تَبَعًا‏.‏

وَيُرِيدُ بِمَنَازِلِ الْمَحْوِ مَقَامَاتِهِ‏.‏

وَأَوَّلُهَا‏:‏ مَحْوُ الْأَفْعَالِ فِي فِعْلِ الْحَقِّ تَعَالَى‏.‏ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِعْلًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَحْوُ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْعَبْدِ‏.‏ فَيَرَاهَا عَارِيَةً أُعِيرَهَا، وَهِبَةً وُهِبَهَا‏.‏ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ‏.‏ فَيَعْلَمُ بِوَاسِطَةِ حَيَاتِهِ‏:‏ مَعْنَى حَيَاةِ رَبِّهِ، وَبِوَاسِطَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ‏:‏ مَعْنَى عِلْمِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ، وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ‏.‏ وَلَوْلَا هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ لِمَا عَرَفَهَا مِنْ رَبِّهِ‏.‏

وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ‏:‏ اعْرِفْ نَفْسَكَ تَعْرِفْ رَبَّكَ‏.‏

وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ أَثَرُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ‏.‏ فَإِنَّهَا أَثَرُ أَفْعَالِ الْحَقِّ، وَأَفْعَالُهُ مُوجِبُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ‏.‏ فَإِذَنْ عَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى أَفْعَالِهِ، وَعَادَتْ أَفْعَالُهُ إِلَى صِفَاتِهِ‏.‏

فَفِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَمْحُو الْعَبْدُ شُهُودَ صِفَاتِهِ وَوُجُودَهَا الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ‏.‏ وَيُثْبِتُ شُهُودَ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ وَوُجُودَهَا الْحَقِيقِيِّ‏.‏ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَحَ عَبْدَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِيَعْرِفَهُ بِهَا‏.‏ وَيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا عَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا‏.‏ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ‏.‏ وَلِهَذَا يُوصَفُ الْغَافِلُ عَنِ اللَّهِ بِالصَّمِّ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالْمَوْتِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ مَحْوُ الذَّاتِ‏.‏ وَهُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى بِالْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا‏.‏ وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ‏.‏ وَوُجُودُ كُلِّ مَا سِوَاهُ قَائِمٌ بِهِ وَأَثَرُ صُنْعِهِ‏.‏ فَوُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْحَقُّ، الثَّابِتُ لِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا‏.‏ وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ‏.‏

وَهَذَا الْمَحْوُ يَصِحُّ بِاعْتَبَارَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الذَّاتِيِّ‏.‏ وَلَا رَيْبَ فِي إِثْبَاتِ مَحْوِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ‏.‏ إِذْ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ سِوَاهُ‏.‏ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَمَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

الِاعْتِبَارُ الثَّانِي‏:‏ الْمَحْوُ فِي الْمَشْهَدِ‏.‏ فَلَا يَشْهَدُ فَاعِلًا غَيْرَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَلَا صِفَاتِ غَيْرَ صِفَاتِهِ، وَلَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، لِغَيْبَتِهِ بِكَمَالِ شُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُودِ جُمْلَةً‏:‏ فَهُوَ مَحْوُ الزَّنَادِقَةِ وَطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ‏.‏ وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ وَكُلُّ وَلِيٍّ لِلَّهِ بَرِيءٌ مِنْهُمْ حَالًا وَعَقِيدَةً‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ مِنْ عَقَبَةِ الْمَحَبَّةِ يَنْحَدِرُ الْمُحِبُّ عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ‏.‏

وَلَمَّا كَانَتْ مَنَازِلُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ غَايَةً عِنْدَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ عَقَبَةً يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَيْهَا‏.‏

وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ غَايَةً‏:‏ فَمَنَازِلُ الْمَحْوِ عِنْدَهُ أَوْدِيَةٌ يَصْعَدُ مِنْهَا إِلَى رُوحِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا مَنَازِلُ الْبَقَاءِ‏.‏ وَأَمَّا الْفَنَاءُ وَالْمَحْوُ‏:‏ فَعَقَبَاتٌ وَأَوْدِيَةٌ فِي طَرِيقِهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ تَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ‏.‏

هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ‏:‏ أَنَّ الْمَحَبَّةَ يُنْحَدَرُ مِنْهَا عَلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ‏.‏ فَهِيَ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ‏.‏ فَمُقَدَّمَةُ الْعَامَّةِ‏:‏ هُمْ فِي آخِرِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ‏:‏ فِي أَوَّلِ مَنْزِلِ الْفَنَاءِ‏.‏ وَمَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِآخِرِ مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَتَلْتَقِي حِينَئِذٍ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ بِسَاقَةِ الْخَاصَّةِ، هَذَا شَرْحُ كَلَامِهِ‏.‏

وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى‏:‏ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ‏.‏ وَهُوَ أَنَّ مُقَدِّمَةَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ يَلْتَقُونَ بِسَاقَةِ أَوْ بَابِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَإِنَّهُمْ أَمَامَهُمْ فِي السَّيْرِ‏.‏ وَهُمْ أَمَامَ الرَّكْبِ دَائِمًا‏.‏ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَقَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ‏.‏ وَهُوَ الصَّوَابُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَمَا دُونَهَا‏:‏ أَغْرَاضٌ لِأَعْوَاضٍ‏.‏

يَعْنِي مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ مَنْزِلَةُ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ‏:‏ فَهِيَ أَغْرَاضٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِأَجْلِ أَعْوَاضٍ يَنَالُونَهَا، وَأَمَّا الْمُحِبُّونَ‏:‏ فَإِنَّهُمْ عَبِيدٌ‏.‏ وَالْعَبْدُ وَنَفْسُهُ وَعَمَلُهُ وَمَنَافِعُهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يُعَاوِضُهُ عَلَى مِلْكِهِ‏؟‏ وَالْأَجِيرُ عِنْدَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ يَنْصَرِفُ‏.‏ وَالْعَبْدُ فِي الْبَابِ لَا يَنْصَرِفُ‏.‏ فَلَا عُبُودِيَّةَ إِلَّا عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ‏.‏ أُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَالْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ، الْمُسَافِرَةِ إِلَى اللَّهِ وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ، وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ سِمَةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُسَافِرِينَ إِلَى رَبِّهِمْ، الَّذِينَ رَكِبُوا جَنَاحَ السَّفَرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُفَارِقُوهُ إِلَى حِينِ اللِّقَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى الْحَقَائِقِ‏.‏ وَقَعَدَ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى الرُّسُومِ‏.‏

وَعُنْوَانُ طَرِيقَتِهِمْ أَيْ دَلِيلُهَا‏.‏ فَإِنَّ الْعُنْوَانَ يَدُلُّ عَلَى الْكِتَابِ، وَالْمَحَبَّةُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّالِبِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ‏.‏

وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ أَيِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إِلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الْعَبْدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الرَّبِّ‏.‏ وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا فِي الرَّبِّ شَيْءٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ فَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏ وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏ وَمَعْقِدُ نِسْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ الْمَحَبَّةُ‏.‏ فَالْعُبُودِيَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهَا، بِحَيْثُ مَتَى انْحَلَّتِ الْمَحَبَّةُ انْحَلَّتِ الْعُبُودِيَّةُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْمَحَبَّةُ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَتُلِذُّ الْخِدْمَةَ‏.‏ وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ ‏"‏ فَإِنَّ الْوَسَاوِسَ وَالْمَحَبَّةَ مُتَنَاقِضَانِ‏.‏ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْقَلْبِ‏.‏ وَالْوَسَاوِسُ تَقْتَضِي غَيْبَتَهُ عَنْهُ، حَتَّى تُوَسْوِسَ لَهُ نَفْسُهُ بِغَيْرِهِ‏.‏ فَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَسَاوِسِ تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ، كَمَا بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ‏.‏

فَعَزِيمَةُ الْمَحَبَّةِ‏:‏ تَنْفِي تَرَدُّدَ الْقَلْبِ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَغَيْرِهِ‏.‏ وَذَلِكَ سَبَبُ الْوَسَاوِسِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجِدَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ فَرَاغًا لِوَسْوَاسِ الْغَيْرِ، لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى‏؟‏ وَمِنْ أَيْنَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ وَالْوَسْوَاسُ‏؟‏

لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ *** فِيهَا يُقَسِّمُ فِكْرَهُ وَيُوَسْوَسُ

قَوْلُهُ ‏"‏ وَتُلِذُّ الْخِدْمَةُ ‏"‏ أَيِ الْمُحِبُّ يَلْتَذُّ بِخِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ‏.‏ فَيَرْتَفِعُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّعَبِ الَّذِي يَرَاهُ الْخَلِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْخِدْمَةِ‏.‏ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ ‏"‏ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَجِدُ فِي لَذَّةِ الْمَحَبَّةِ مَا يُنْسِيهِ الْمَصَائِبَ وَلَا يَجِدُ مِنْ مَسِّهَا مَا يَجِدُ غَيْرَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ اكْتَسَى طَبِيعَةً ثَانِيَةً لَيْسَتْ طَبِيعَةَ الْخَلْقِ‏.‏ بَلْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، حَتَّى يَلْتَذَّ الْمُحِبُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا حَبِيبَهُ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ الْخَلِيِّ بِحُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ‏.‏ وَالذَّوْقُ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فَوَائِدُ هَذِه الْمَحَبَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ‏.‏ وَتُثْبِتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ‏.‏ وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ ‏"‏ أَيْ تَنْشَأُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْعَبْدِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنِعَمَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ، فَبِقَدْرِ مُطَالَعَتِهِ ذَلِكَ تَكُونُ قُوَّةُ الْمَحَبَّةِ ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ‏.‏ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا‏.‏ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ قَطُّ إِحْسَانٌ إِلَّا مِنَ اللَّهِ‏.‏ وَلَا إِسَاءَةَ إِلَّا مِنَ الشَّيْطَانِ‏.‏

وَمِنْ أَعْظَمِ مُطَالَعَةِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ‏:‏ تَأْهِيلُهُ لِمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ، وَمُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ‏.‏ وَأَصْلُ هَذَا‏:‏ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ‏.‏ فَإِذَا دَارَ ذَلِكَ النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَذَاتِهِ‏:‏ أَشْرَقَتْ ذَاتُهُ‏.‏ فَرَأَى فِيهِ نَفْسَهُ، وَمَا أُهِلَّتْ لَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالْمَحَاسِنِ‏.‏ فَعَلَتْ بِهِ هِمَّتُهُ‏.‏ وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ‏.‏ وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ‏.‏ لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ‏.‏ فَرَقِيَتْ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْهَيْبَةِ وَالْأُنْسِ إِلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ‏.‏

نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى *** مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى *** وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

وَهَذَا النُّورُ كَالشَّمْسِ فِي قُلُوبِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَكَالْبَدْرِ فِي قُلُوبِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَالنَّجْمِ فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ كَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الزُّهْرَةِ وَالسُّهَى‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَتَثْبُتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ ‏"‏ أَيْ ثَبَاتُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَعْمَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ‏.‏ فَبِحَسَبِ هَذَا الِاتِّبَاعِ يَكُونُ مَنْشَأُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَثَبَاتِهَا وَقُوَّتِهَا‏.‏ وَبِحَسَبِ نُقْصَانِهِ يَكُونُ نُقْصَانُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ‏:‏ أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَحْبُوبِيَّةَ مَعًا‏.‏ وَلَا يَتِمُّ الْأَمْرُ إِلَّا بِهِمَا‏.‏ فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ، بَلِ الشَّأْنُ فِي أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ‏.‏ وَلَا يُحِبَّكَ اللَّهُ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ حَبِيبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَصَدَّقْتَهُ خَبَرًا، وَأَطَعْتَهُ أَمْرًا، وَأَجَبْتَهُ دَعْوَةً، وَآثَرْتَهُ طَوْعًا‏.‏ وَفَنِيَتْ عَنْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ بِمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ‏.‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَنَّ‏.‏ وَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَالْتَمِسْ نُورًا‏.‏ فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ‏.‏

وَتَأَمَّلْ قوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ أَيِ الشَّأْنُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّكُمْ‏.‏ لَا فِي أَنَّكُمْ تُحِبُّونَهُ، وَهَذَا لَا تَنَالُونَهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْحَبِيبِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ ‏"‏ الْإِجَابَةُ بِالْفَاقَةِ‏:‏ أَنْ يُجِيبَ الدَّاعِي بِمَوْفُورِ الْأَعْمَالِ‏.‏ وَهُوَ خَالٍ مِنْهَا‏.‏ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهَا، بَلْ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ وَالْفَقْرِ التَّامِّ‏.‏ فَإِنَّ طَرِيقَةُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ‏:‏ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهَا عَمَلٌ، أَوْ حَالٌ أَوْ مَقَامٌ‏.‏ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّهِ بِالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، وَالْفَاقَةِ الْمُجَرَّدَةِ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَنْمُو عَلَى هَذَا الْمَشْهَدِ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةِ‏.‏ وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ مَقَامٍ‏.‏ وَأَعْلَاهُ مِنْ مَشْهَدٍ‏.‏ وَمَا أَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ‏!‏ وَمَا أَجْلَبَهُ لِلْمَحَبَّةِ‏!‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏